سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {فلما قَضَيْنَا عليه} على سليمان {الموتَ ما دلّهم} أي: الجن وآل داود {على موته إِلا دابةُ الأرض} أي: الأرضة، وهي دويبة تأكل الخشب، ويقال: لها، سُرْفةَ والقادح. والأرض هنا مصدر: أرَضَتِ الخشبة، بالبناء للمفعول، أرَضَّا: أكلتها الأرضة. فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض، أي: الأكل. {تأكل مِنْسَأَتَهُ} أي: عصاه، سميت منسأة؛ لأنها تنسى، أي: تطرح ويُرْمى بها. وفيها لغتان؛ الهمز وعدمه، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز، وعليه قول الشاعر:
إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ *** فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ
وقرأ غيرهما بالهمز، وهو أشهر.
{فلما خرّ} سقط سليمانُ {تبينتِ الجنُّ} أي: تحققت وعلمت علماً يقيناً، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم، {أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا} بعد موت سليمان {في العذاب المهين} في العمل الشاق له، لظنهم حياته، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته.
وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام، فمات قبل أن يتمه، فوصّى به إلى سليمان، فأمر الشياطين بإتمامه. فلما بقي من عمره سنة، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا، ولتبطل دعواهم علم الغيب. وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة. وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة. فبقي في ملكه أربعين سنة، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. قال الثعلبي: فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وعمَّره بأساطين المها الصافي، وسقفه بأنواع الجواهر، وفضض سقوفه وحيطانه باللآلىء، وسائر أنواع الجواهر، وبسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد. كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر. ومن أعاجيب ما اتخذ في بيت القدس، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة، وصقله، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود، فارتدع كثير من الناس عن الفجور.
قال صلى الله عليه وسلم: «لما فرغ سليمانُ من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين، وأن أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه، فأعطاه إياه، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك». اهـ.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى خرّبه بخت نصر، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت، وحمله إلى دار مملكته من العراق.
ثم قال: قال المفسرون: كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين، والشهر والشهرين، يدخل فيه طعامه وشرابه، فدخله في المرة التي مات فيها.
وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة، فيسألها: ما اسمك؟ فتقول الشجرة: اسمي كذا، فيأمر بها فنقطع، فإن كانت لغرس غرسها، وإن كانت لدواء كُتبت. فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروبة، قال لها: ولأي شيء نَبَتِّ؟ قالت: لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي، وهلاك بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط، ثم قال: اللهم أعم عن الجن موتي، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب. وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب، ثم دخل المحراب، وقام يصلي على عصاه، فمات.
وقيل: إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم: قد آتاني الله ما ترون، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر، فدخل قصره من الغد، وأمر بغلق أبوابه، ومنع الناس من الدخول عليه، ورفْعِ الأخبار إليه. ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه، عليه ثياب بيض، قد خرج عليه من جوانب قصره، فقال: السلام عليك يا سليمان، فقال: عليك السلام، كيف دخلت قصري؟ فقال: أنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا يدفعني بوّاب، ولا أهاب الملوك، ولا أقبل الرشا، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن. فقال سليمان: فمَن أَذِنَ لك في دخوله؟ قال: ربه، فارتعد سليمان، وعَلِمَ أنه ملك الموت، فقال: يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي، قال: يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه. اهـ.
وفي رواية: أنه دعا الشياطين، فبنوا له صرحاً من قوارير، ليس له باب، فقام يُصلي، واتكأ على عصاه، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه. والله تعالى أعلم أيّ ذلك كان. وبقي سليمان ميتاً، وهو قائم على عصاه سنة، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه. ولم يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت منها يوماً وليلة، ثم حسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة. سبحان الحي الذي لا يموت، ولا ينقضي ملكه.
الإشارة: كل دولة في الدنيا تحول، وكل عز فيها عن قريب يزول، فالعاقل مَن صرف دولته في طاعة مولاه، وبذل جهده في محبته ورضاه، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبد الرحمن بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي، ويتواضع للكبير والصغير، والوجيه والحقير، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره، ويكتمه عن غيره. وبالله التوفيق.


قلت: {لسبأ} فيه الصرف، بتأويل الحي، وعدمه، بتأويل القبيلة. و{مسكنهم}، مَن قرأ بالإفراد وفتح الكاف على القياس في الاسم والمصدر، كمدخَل، ومَن كسره فلغة، والسماع في المصدر كمسجِد. و{جنتان} بدل من {آية} أو: خبر عن مضمر، أي: هي جنتان. و{أُكل خَمْطٍ}، فمَن أضافه فإضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز، ومَن نوّنه قطعه عن الإضافة، وجعله عطف بيان. أو صفة، بتأويل خمطٍ ببشيع.
يقول الحق جلّ جلاله: {لقد كان لسبأٍ} سُئل صلى الله عليه وسلم أرجلاً كان أو امرأة، أو أرضاً أو جبلاً أو وادياً، فقال صلى الله عليه وسلم: «هو رجل من العرب، ولد عشرة من الولد، فتيامن ستةٌ، وتشاءم أربعةٌ: فالذين تيامنوا كثرة، فكندة، والأشعريون، والأزد، ومذحج، وأنمارُ، وحميرُ، فقال رجل: مَن أنمار يا رسول الله؟ قال منهم خَثْعَمُ وبَجِيلَةُ. والذين تشاءموا: عاملة، وجذام، ولخم، وغسان»
قلت: وسبأ هو ابن يشخب بن يعرب بن قحطان. واختلف في قحطان، فقيل: هو ابن عابر بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح. وقيل: هو أخو هود عليه السلام. وقيل: هو هود، بنفسه، وإن هوداً هو ابن عبدالله بن رباح، لا ابن عابر، على الأصح. فهو على هذا القول ابن أرم بن سام. وقيل: قحطان من ولد إسماعيل، فهو ابن أيمن بن قيذر بن إسماعيل. وقيل: هو ابنُ الهميسع بن أيمن. وبأيمن سميت اليمن، وقيل: لأنها عن يمين الكعبة. هذا والعربُ كلها يجمعها أصلان: عدنان وقحطان، فلا عربي في الأرض إلا وهو ينتهي إلى أحدهما، فيقال: عدناني أو قحطاني.
ومَن جعل العرب كلها من ولد إسماعيل مرّ على أن قحطان من ذرية إسماعيل، كما تقدّم، واختلف في خزاعة، فقيل: قحطانية، وقيل: عدنانية، وأن جدهم عمرو بن لحي، وأما الأوس والخزرج فهما من ذرية سبأ، نزلت يثرب، بعد سيل العرم، كما يأتي.
قال تعالى: {لقد كان لسبأٍ في مسكنهم} أي: في بلدهم، أو أرضهم، التي كانوا مقيمين فيها باليمن، {آيةٌ} دالة على وحدانيته تعالى، وباهر قدرته، وإحسانه، ووجوب شكر نعمه، وهي: {جنتانِ} أي: جماعة من البساتين، {عن يمينٍ} واديهم، {وَشِمَالٍ} وعن شماله. وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتصافها كأنها جنة واحدة، كما يكون في بساتين البلاد العامرة. قيل: كان الناس يتعاطون ذلك على جَنْبتي الوادي، مسيرة أربعين يوماً، وكلها تُسقى من ذلك الوادي؛ لارتفاع سده. أو: أراد بُسْتانين، لكل رجل بستان عن يمين داره، وبستان عن شماله. ومعنى كونهما آية: أن أهلها لَمّا أعرضوا عن شكر النعم سلبهم الله النعمة، ليعتبروا ويتَعظوا، فلا يعودوا لِمَا كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، فلما أثمرت البساتين؛ قلنا لهم على لسان الرسل المبعوثين إليهم، أو بلسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك: {كُلُوا من رزق ربكم واشكرُوا له} بالإيمان والعمل الصالح، {بلدةٌ طيبةٌ} أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، {وربُّ غفور} أي: وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ غفور لمَن شكره.
قال ابن عباس: كانت سبأ على ثلاثة فراسخ من صنعاء، وكانت أخصب البلاد، فتخرج المرأة على رأسها المكتل، وتسير بين تلك الشجر، فيمتلىء المِكْتَل مما يتساقط فيه من الشجر ولقد كان الرجل يخرج لزيارة أقاربه، وعلى رأسه مكتل، أو قُفة، أو طبق فارغ، فلا يصل إلى حيث يريد إلا والطبق قد امتلأ فاكهة، مما تسقطه الرياح، دون أن يمد يده إلى شيء من ثمرها. ومن طيبها: أنها لم تُرَ في بلدهم بعوضة قط، ولا ذباب، ولا برغوث، ولا عقرب، ولا حية. وإذا جاءهم الركب في ثيابهم القمل والدواب؛ ماتت الدواب والقمل؛ لطيب هواها.
{فأَعْرَضوا} عن الشكر، بتكذيب أنبيائهم، وكفر نعمة الله عليهم. وقالوا: ما نعرف لله علينا من نعمة، عائذاً بالله. قال وهب: بعث الله إلى سبأ ثلاثة عشر نبيًّا، يدعونهم إلى الله تعالى، فكذّبوهم، {فأرسلنا عليهم سيلَ العَرِم} أي: سيل الأمر العرم، أي: الصعب. من: عرَم الرجل فهو عارم، وعَرِمَ: إذا شَرِسَ خُلقه وصعب، أي: أرسلنا عليهم سيلاً شديداً، مزَّق سدهم، وغرق بساتينهم. قيل: جمع عَرمة، وهي السد الذي يمسك الماء إلى وقت حاجته.
قال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا السد يسقي جنتها، وبنته بلقيس؛ لأنه لَمّا ملَكت جعل قومها يقتتلون على ماء مواشيهم، فنهتهم، فأبَوا، فنزلت عن ملكها، فلما كثر الشرُّ بينهم أرادوها أن ترجع إلى مُلكها، فأبت، فقالوا: لترجعي أو لنَقتلنك، فجاءت، وأمرت بواديهم فسُد أعلاه بالعرم، وهو المُسنّاة بلغة حِمْير فسدت ما بين الجبلين بالصخر والنار، وجعلت له أبواباً ثلاثة، بعضها فوق بعض، وبنت من دونه بركة عظيمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً، على عدة أنهارهم. فلما جاء المطر اجتمع ماء الصخر وأودية اليمن، فاحتبس السيل من وراء السدّ، ففتحت الباب الأعلى، وجرى ماؤه في البركة، وألقت البقر فيها، فخرج بعض البقر أسرع من بعض، فلم تزل تضيق تلك الأنهار، وترسل البقر في الماء، حتى خرجت جميعاً معاً، فكانت تقسمه بينهم على ذلك، حتى كان من شأنها وشأن سليمان ما كان. فكانوا يسْقُون من الباب الأعلى، ثم من الثاني، ثم من الأسفل، فلا ينفد حتى يثوب الماء من السنة المقبلة. فلما كفروا وطغوا، سلّط الله عليهم جُرذاً، يُسمى الخلد وهو الفأر فنقبه من أسفله، فغرَّق الماء جنتهم، وخرّب أرضهم. اهـ.
قال وهب: وكانوا يزعمون أنهم يجدون في عِلْمِهم وكهانتهم أنهم يُخرب سدهم فأرة، فلم يتركوا فرجة بين صخرتين إلا ربطوا عندها هِرًّا، فلما حان ما أراد الله بهم، أقبلت فأرة حمراء، إلى بعض الهِرَر، فساورتها أي: حاربتها، حتى استأخرت عنها أي: عن تلك الفرجة الهرة، فدخلت في الفرجة التي كانت عندها، ونقبت السد، حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون، فلما جاء السيل دخل في تلك الخلل، حتى بلغ السد، فخربه، وفاض على أموالهم، فغرقتها، ودفن بيوتهم، ومُزقوا، حتى صاروا مثلاً عند العرب، فقالوا: تفرّقوا أياديَ سبأ. اهـ.
{وبدلناهم بجنتيهم} المذكورتين {جنتين} أخريَيْن. وتسمية المبدلتين جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام، كقوله: {وجَزَآؤُاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40]. {ذواتي أُكُل خَمْطٍ} الأُكل: الثمر المأكول، يخفف ويثقل. والخمط، قال ابن عباس: شجر الأراك، وقال أبو عبيد: كل شجر مؤذ مشوِّك. وقال الزجاج: كل شجر مُر. اهـ. وفي القاموس: الخمط: الحامض المر من كل شيء، وكل نبت أخذ طعماً من مرارة وحموضة، وشجر كالسدر، وشجر قاتل، أو كل شجر لا شوك له. اهـ. وقرأ البصريان بالإضافة، من إضافة الشيء إلى جنسه، كثوب خز؛ لأن المراد بالأكل المأكول، أي: ذواتي ثمر شجر بشيع. والباقون: بالتنوين، عطف بيان، أو صفة، بتأويل خمط ببشيع، أي: مأكول بشيع. {وأثْلٍ} هو شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، وأجود عوداً. {وشيءٍ من سِدْرٍ قليل} والحاصل أن الله تعالى أهلك أشجارهم المثمرة، وأنبت مكانها الطرفاء والسدر. وإنما قال: السدر، لأنه أكرمُ ما بُدلوا به؛ لأنه يكون في الجنان.
{ذلك جزيناهم بما كفروا} أي: جزيناهم ذلك بكفرهم، فذلك مفعول مطلق بجزينا، {وهل يُجازى} هذا الجزاء الكلي {إِلا الكفورُ} أي: لا يجازى بمثل هذا الجزاء إلا مَن كفر النعمة ولم يشكرها، أو: كفر بالله، أو هل يعاقب؛ لأن الجزاء وإن كان عامًّا يستعمل في معنى المعاقبة، وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص، وهو المعاقبة. قال الواحدي: وذلك لأن المؤمن يكفر عنه سيئاته، والكافر يجازى بكل سوء عمله. قلت: بل الظاهر المجازاة الدنيوية بسلب النعم، ولا تسلب إلا للكفور، دون الشكور. قاله في الحاشية.
وعن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. اهـ. قلت: ولعلهم استمروا من زمن سليمان إلى أن جاوزوا زمن عيسى عليه السلام.
الإشارة: لكل مريد وعارف جنتان عن يمين وشمال، يقطف من ثمارهما ما يشاء؛ جنة العبودية، وجنة الربوبية، جنة العبودية للقيام بآداب الشريعة، وجنة الربوبية للقيام بشهود الحقيقة، فيتفنّن في جنة العبودية بعلوم الحكمة، ويتفنّن في جنة الربوبية بعلوم القدرة، وهي أسرار الذات وأنوار الصفات. كُلوا من رزق ربكم حلاوةَ المعاملة في جنة العبودية، وحلاوةَ المشاهدة في جنة الربوبية؛ بلدة طيبة هي جنة الربوبية؛ إذ لا أطيب من شهود الحبيب، ورب غفور لتقصير القيام بآداب العبودية؛ إذ لا يقدر أحد أن يحصيها، ولا جزءاً منها.
فأعرض أهل الغفلة عن القيام بحقهما، ولم يعرفوهما، فأرسلنا على قلوبهم سيل العرم، وهو سيل الخواطر والوساوس، وخوض القلب في حِس الأكوان، فبدلناهم بجنتيهم جنتين؛ مرارة الحرص والتعب، والهم والشغب. ذلك جزيناهم بكفرهم بطريق الخصوص من أهل التربية، وهل يُجازى إلا الكفور.
قال القشيري: {وبدلناهم بجنتيهم جنتين...} الآية، كذلك من الناس مَن يكون في رَغَدٍ من الحال، واتصالٍ من التوفيق، وطيب من القلب، ومساعدة من الوقت، فيرتكبُ زَلَّةً، أو يتبع شهوةً، ولا يعرف قَدْرَ ما يفوته فيفتر عليه الحالُ، فلا وقتَ ولا حالَ، ولا قُربَ ولا وصالَ، يُظْلِمُ عليه النهارُ، بعد أن كانت لياليه مضيئة. وأنشدوا:
ما زلتُ أختال في زَماني *** حتى أَمِنتُ الزمانَ مَكْرَه
طال علينا الصدودُ حتى *** لم يبق مما شَهِدْت ذَرَّه
{ذلك جزيناهم بما كفروا...} الآية: ما عوقبوا إلاَّ بما استوجبوا، وما سُقُوا إلاَّ ما أفيضوا، ولا وقعوا إلاَّ في الوَهْدَةِ التي حَفَرُوا، وما قُتِلُوا إلا بالسيف الذي صَنَعُوا. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {وجعلنا بينهم} أي: بين سبأ {وبين القرى التي باركنا فيها} بالتوسعة على أهلها بالنعم والمياه، وهي قرى الشام، {قُرىً ظاهرةً} متواصلة يُرى بعضها من بعض؛ لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو: ظاهرة للسَّابلة، لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم، وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة، من سبأ إلى الشام، {وقدَّرنا فيها السيْرَ} أي: جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم، يقيل المسافر في قرية، ويروح إلى أخرى، إلى أن يبلغ الشام. وقلنا لهم: {سِيرُوا فيها} ولا قول هناك، ولكنهم لَمَّا تمكنوا من السير، ويُسّرت لهم أسبابه، فكأنهم أُمروا بذلك، فقيل لهم: سيروا في تلك القرى {لياليَ وأياماً آمنينَ} أي: سيروا فيها إن شئتم بالليل، وإن شئتم بالنهار، فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات، أو: سيروا فيها آمنين لا تخافوا عدواً، ولا جوعاً، ولا عطشاً، وإن تطاولت مدة سيركم، وامتدت أياماً وليالي. فبطروا النعمة، وسئموا العافية، وطلبوا الكدر والتعب.
{فقالوا ربَّنا باعِدْ بين أسفارِنَا} قالوا: يا ليتها كانت بعيدة، نسير على نجائبنا، ونتخذ الزاد، ونختص بالربح في تجاراتنا، أرادوا أن يتطاولوا على الفقراء بالركوب على الرواحل، ويختصوا بالأرباح. وقرأ يعقوب {ربُّنا} بالرفع {باعَدَ} بفتح العين، فربنا: مبتدأ، والجملة: خبر، على أنه شكوى منهم ببُعد سفرهم، إفراطاً في الترفيه وعدم الاعتداد بالنعمة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بشد العين، من {بعِّد} المضعف. والباقون بالألف والتخفيف، من: باعد، بمعنى {بعد} المشددة. {وظلموا أنفسَهم} بما قالوا، وما طلبوا، ففرّق الله شملهم، كما قال تعالى: {فجعلناهم أحاديثَ} يتحدث الناس بهم، ويتعجبون من أحوالهم، ويضرب بهم الأمثال، يقال: تفرقوا أيادي سبأ، وأيدي سبأ، يقال بالوجهين. وفي الصحاح: ذهبوا أيادي سبأ، أي: متفرقين، فهو من المُركّب تركيب مزج.
{ومزَّقناهم كل مُمزّقٍ} أي: فرقناهم كل تفريق، فتيامن منهم ست قبائل، وتشاءمت أربعة، حسبما تقدم في الحديث. قال الشعبي: أما غسان فلحقوا بالشام، وأما أنمار فلحقوا بيثرب، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة، والأزد بنعمان. اهـ. قلت: وفيه مخالفة لظاهر الحديث، فإن أنمار جد خثعم وبجيلة، ولم يكونوا في المدينة.
والذي هو المشهور أن الأوس والخزرج هما اللذان قدما المدينة، فوجدوا فيها طائفة من بني إسرائيل، بعد قتلهم للعماليق. وسبب نزولهم بها: أن حَبْرين منهم مَرَّا بيثرب مع تُبع، فقالا له: نجد في علمنا أن هذه المدينة مهاجرَ نبي، يخرج في آخر الزمان، يكون سنه كذا وكذا، فاستوطناها، يترصَّدان خروجه صلى الله عليه وسلم، فمن نسلهما بقيت اليهود في المدينة، والأوس والخزرج هما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأسد بن الغوث ابن بنت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.
وولد مازن بن الأسد هم غسان، سموا بماء اليمن، شربوا منه. ويقال: غسان: ماء بالشمال شربوا منه، نُسبوا إليه. قال حسان:
أما سألت فإنا معشرٌ نجبٌ *** الأسْدُ نسبتُنا والماء غسان
{إنَّ في ذلك لآيَاتٍ لكل صبَّارٍ} عن المعاصي {شكورٍ} للنعم، أو: لكل مؤمن؛ لأن الإيمان نصفان؛ نصفه صبر، ونصفه شكر.
الإشارة: وجعلنا بين السائرين وبين منازل الحضرة المقدسة منازلَ ظاهرة، ينزلوها، ويرحلون عنها، آمنين من الرجوع، إن صَدَقوا في الطلب، وهي منازل كثيرة، وأهمها اثنا عشر مقاماً: التوبة، والخوف، والرجاء، والزهد، والصبر، والشكر، والتوكُّل، والرضا، والتسليم، والمراقبة، والمشاهدة. ومنازل الحضرة هي الفناء، والبقاء، وبقاء البقاء، والترقِّي في معاريج الأسرار والكشوفات، أبداً سرمداً. يقال للسائرين: سيروا فيها، وأقيموا في كل منزل منها، ليالي وأياماً، حتى يتحقق به نازله، ثم يرحل عنه إلى ما بعده. ثم إن قوماً سئموا من السير وادَّعوا القوة، فقالوا: ربَّنا باعد بين أسفارنا حتى يظهر عزمنا وقوتنا، وظلموا أنفسهم بذلك، ففرقناهم عنا كل تفريق، وعوّقناهم عن السير كل تعويق، ليكون ذلك آية وعبرة لمَن بعدهم، فلا يخرجون عن مقام الاستضعاف والمسكنة، والانكسار والذلة، أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8